كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فصل: فَأَمَّا إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ فِي حَالِ نِكَاحِهَا بِزِنًا نَسَبَهُ إِلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْهَا قَبْلَ نِكَاحِهَا، فَقَالَ: زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ لِعَانِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: بِنَاءً عَلَى خِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ لِعَانِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، فَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِلَى جَوَازِ لِعَانِهِ اعْتِبَارًا بِحَالِ الْقَذْفِ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ زَوْجَةٌ، لِذَلِكَ مَنَعَ مِنْ جَوَازِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ اعْتِبَارًا بِحَالِ الزِّنَا، وَأَنَّهَا كَانَتْ غَيْرَ زَوْجَتِهِ وَلِذَلِكَ جَوَّزَ اللِّعَانَ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَاعْتَبَرَ الشَّافِعِيُّ بِاللِّعَانِ حَالَ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ، وَاعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ حَالَ الْقَذْفِ دُونَ الزِّنَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النُّورِ: 6] فَجَازَ أَنْ يَلْتَعِنَ كُلُّ قَاذِفٍ لِزَوْجَتِهِ، وَلِأَنَّهُ قَاذِفٌ لِزَوْجَتِهِ فَجَازَ لِعَانُهُ كَالزِّنَا فِي الزَّوْجِيَّةِ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُلَاعِنَ مِنَ الزِّنَا الْحَادِثِ فِي نِكَاحِهِ لِئَلَّا يَلْتَحِقَ بِهِ وَلَدُ الزِّنَا جَازَ فِي الزِّنَا الْمُتَقَدِّمِ أَنْ يُلَاعِنَ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النُّورِ: 4] الْآيَةَ، وَهَذَا فِي الزِّنَا الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ أَجْنَبِيَّةٌ فَحُدَّ وَلَمْ يَلْتَعِنْ، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ بِزِنًا هِيَ فِيهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُلَاعِنَ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الزِّنَا لَا بِحَالِ الْقَذْفِ. أَلَا تَرَى لَوْ قَالَ لِمُعْتَقٍ: زَنَيْتَ قَبْلَ عِتْقِكَ، وَلِبَالِغٍ: زَنَيْتَ قَبْلَ بُلُوغِكَ، وَلِمُسْلِمٍ: زَنَيْتَ قَبْلَ إِسْلَامِكَ، لَمْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ اعْتِبَارًا بِحَالِ الزِّنَا دُونَ حَالِ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّعَانِ بِالْقَذْفِ فَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ فَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاعْتِبَارِ بِحَالِ الزِّنَا دُونَ الْقَذْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَاذِفٌ بِالزِّنَا لِغَيْرِ زَوْجَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا دَلِيلٌ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، فَالْمَعْنَى فِي الزَّوْجَةِ ضَرُورَتُهُ إِلَى قَذْفِهَا لِرَفْعِ الْمَعَرَّةِ وَنَفْيِ النَّسَبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ هَذِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا مَعَرَّةَ عَلَيْهِ، وَلَا ضَرَرَ يَلْحَقُهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ قَدْ يَلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا مِنَ الزِّنَا الْمُتَقَدِّمِ إِذَا وَضَعَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ فَاضْطُرَّ إِلَى قَذْفِهَا وَالْتِعَانِهِ مِنْهَا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ الْتِعَانِهِ، مِنْهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ-: يَجُوزُ حِينَئِذٍ لِلضَّرُورَةِ أَنْ يُلَاعِنَ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ أَنْ يَنْفِيَ نَسَبًا بِزِنًا كَانَ عَلَى فِرَاشِهِ فَأَوْلَى أَنْ يَنْفِيَهُ بِزِنًا كَانَ قَبْلَ نِكَاحِهِ. وَلَا سَبِيلَ إِلَى نَفْيِهِ إِلَّا بِقَذْفِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا وَإِنْ خَلَتْ مِنْ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ زِنًا مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ، وَلَا ضَرُورَةَ بِهِ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ وَلَدٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَقْذِفَهَا بِزِنًا مُطْلَقٍ فَيُلَاعِنَ مِنْهُ وَلَا يَنْسِبُهُ إِلَى مَا قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ فَيَمْنَعُهُ مِنَ اللِّعَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَوْ قَالَ: أَصَابَكِ رَجُلٌ فِي دُبُرِكِ الزوج حُدَّ أَوْ لَاعَنَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ، وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّهُ الْإِتْيَانُ فِي الدُّبُرِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عِنْدَهُ، فَلَمْ يُوجِبْهُ فِي الْقَذْفِ بِهِ. وَقَالَ الْمُزَنِيُّ: يَجِبُ فِي فِعْلِهِ وَفِي الْقَذْفِ بِهِ الْحَدُّ. وَلَا يَجُوزُ فِيهِ اللِّعَانُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَبِّلُهَا بِمَائِهِ وَلَا يَقْدَحُ فِي نَسَبِهِ، فَصَارَ كَالْوَاطِئِ دُونَ الْفَرْجِ، وَهَذَا خَطَأٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى فَاعِلِهِ رِوَايَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوهُ وَلِأَنَّهُ أَحَدُ الْفَرْجَيْنِ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ- بِالْإِيلَاجِ فِيهِ- الْحَدُّ كَالْقُبُلِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ حَدِّ الْقَذْفِ فِي الرَّمْيِ بِهِ، أَنَّهُ إِيلَاجٌ يُوجِبُ الْحَدَّ فَوَجَبَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْقَذْفِ بِهِ وُجُوبُ الْحَدِّ كَالْقُبُلِ، وَلِأَنَّ فِعْلَهُ أَقْبَحُ وَالْمَعَرَّةَ بِهِ أَفْضَحُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ فِيهِ عُمُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، فَجَازَ فِيهِ اللِّعَانُ كَالْقُبُلِ، فَإِذَا لَاعَنَ بِهِ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ وَثَبَتَ التَّحْرِيمُ بِهِ، وَفِي جَوَازِ نَفْيِ الْوَلَدِ بِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَاقَةَ: أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَهُ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْعُلُوقِ مِنْهُ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَنْفِيَهُ لِأَنَّهُ قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَسْبِقَ الْإِنْزَالَ فَيَسْتَدْخِلَهُ الْفَرَجُ فَيَعْلَقَ بِهِ.
فصل: فَأَمَّا إِذَا قَذَفَهَا بِسِحَاقِ النِّسَاءِ فَلَا حَدَّ فِيهِ وَلَا لِعَانَ مِنْهُ، لِأَنَّ فِعْلَهُ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ دُونَ الْحَدِّ، فَكَذَلِكَ الْقَذْفُ بِهِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ دُونَ الْحَدِّ، وَلَوْ قَالَ لَهَا: وَطِئَكِ رَجُلَانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ عُزِّرَ وَلَمْ يُحَدَّ لِاسْتِحَالَتِهِ فَصَارَ كَذِبًا صَرِيحًا، وَخَرَجَ عَنِ الْقَذْفِ الْمُحْتَمِلِ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، وَاخْتُصَّ التَّعْزِيرُ لِلْأَذَى وَلَمْ يَجْرِ فِيهِ اللِّعَانُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ- وَأُمُّهَا حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ- فَطَلَبَتْ حَدَّ أُمِّهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهَا، وَحُدَّ لِأَنَّهَا إِذَا طَلَبَتْهُ أَوْ وَكِيلُهَا وَالْتَعَنَ لِامْرَأَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حُبِسَ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ فَإِذَا بَرَأَ حُدَّ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِقَوْلِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ قَاذِفًا لَهَا وَلِأُمِّهَا بِلَفْظَيْنِ فَقَوْلُهُ: يَا زَانِيَةُ، هُوَ قَذْفٌ لِزَوْجَتِهِ وَلَيْسَ فِيهِ قَذْفٌ لِأُمِّهَا. وَقَوْلُهُ: بَنَتَ الزَّانِيَةِ، هُوَ قَذْفٌ لِأُمِّهَا وَلَيْسَ فِيهِ قَذْفٌ لَهَا، فَوَجَبَ عَلَيْهِ لَهَا حَدَّانِ لَا تَعَلُّقَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ وَجَعَلَهُ أَهْلُ الْعِرَاقِ قَذْفًا وَاحِدًا وَأَوْجَبُوا فِيهِ حَدًّا وَاحِدًا، وَأُجْرِيَ مَجْرَى قَوْلِهِ لَهُمَا: يَا زَانِيَتَانِ، فَجَمَعُوا بَيْنَ قَذْفِهِمَا بِلَفْظِةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَيْنَ قَذْفِهِمَا بِلَفْظَتَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، وَعَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ مَتَى قَذَفَهُمَا بِلَفْظَيْنِ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدَّانِ، وَإِنْ قَذْفَهُمَا بِلَفْظَةٍ وَاحِدَةٍ، فَفِيهِ قَوْلَان:
أحدهما:- وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ-: يَجِبُ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ كَقَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، لِأَنَّ لَفْظَةَ الْقَذْفِ وَاحِدَةٌ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي:- قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ-: يَجِبُ عَلَيْهِ حَدَّانِ، لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ اثْنَتَانِ وَفِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَعْلِيلِ هَذَا الشَّرْحِ إِبْطَالٌ لِقَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ عَلَيْهِ بِهَذَيْنِ الْقَذْفَيْنِ حَدَّان:
أحدهما لِزَوْجَتِهِ، وَالْآخِرُ لِأُمِّهَا، فَحَدُّ الْأُمِّ يَسْقُطُ عَنْهُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا بِإِقْرَارِهَا بِالزِّنَا، وَإِمَّا بِأَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا، وَحَدُّ الزَّوْجَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: إِمَّا بِإِقْرَارِهَا، وَإِمَّا بِالْبَيِّنَةِ، وَإِمَّا بِاللِّعَانِ، فَإِنْ سَقَطَ الْحَدَّانِ عَنْهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِمَا، وَإِنْ سَقَطَ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ حَقُّ الْآخَرِ، وَإِنْ لَمْ يَسْقُطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِإِقْرَارٍ وَلَا بِبَيِّنَةٍ وَاجْتَمَعَ الْحَدَّانِ عَلَيْهِ فَلَهُمَا إِذَا كَانَ الْقَاذِفُ مُطَالَبًا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ حَاضِرَةً وَأُمُّهَا غَائِبَةً فَيُحَدُّ لِلْبِنْتِ إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ، وَلَا يَقِفُ عَلَى حُضُورِ الْأُمِّ، فَإِذَا حَضَرَتِ الْأُمُّ حُدَّ لَهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ: إِنْ حُدَّ لِلُزُوجَةِ لَمْ يُحَدَّ لِلْأُمِّ؛ لِأَنَّهُمْ يُوجِبُونَ حَدًّا وَاحِدًا، وَإِنِ الْتَعَنَ مِنَ الزَّوْجَةِ حُدَّ لِلْأُمِّ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ حَاضِرَةً، وَالزَّوْجَةُ غَائِبَةً، فَيُحَدُّ لِلْأُمِّ، وَلَا يَقِفُ حَدُّهَا عَلَى حُضُورِ الزَّوْجَةِ فَإِذَا حَضَرَتْ حُدَّ لَهَا إِلَّا أَنْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا، وَعَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْعِرَاقِ: لَا يُحَدُّ لَهَا وَلَا يَلْتَعِنُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْحَدَّ عِنْدَهُمْ وَاحِدٌ فَلَمْ يُوجِبُوا ثَانِيًا وَقَدْ صَارَ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ فَلَمْ يَجُزْ عِنْدَهُمْ أَنْ يُلَاعِنَ. وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ تَكُونَا حَاضِرَتَيْنِ مُطَالِبَتَيْنِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْأُمَّ تُقَدَّمُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهَا عَلَى الْبِنْتِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لَقُوَّةِ حَقِّهَا؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِقَذْفِهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَوُجُوبَهُ لِبِنْتِهَا وَهِيَ زَوْجَتُهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْحَدِّ لَهَا مَخْرَجٌ، وَلَهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ لِزَوْجَتِهِ مَخْرَجٌ بِاللِّعَانِ، فَصَارَتْ بِهَذَيْنِ أَحَقَّ بِالتَّقَدُّمِ، وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ: تُقَدَّمُ مُطَالَبَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى مُطَالَبَةِ أُمِّهَا، وَلِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدِي وَجْهٌ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ عَلَى قَذْفِ أُمِّهَا فِي قَوْلِهِ: يَا زَانِيَةُ بِنْتَ الزَّانِيَةِ فَصَارَتْ لِتَقَدُّمِ قَذْفِهَا أَحَقَّ بِالتَّقَدُّمِ، فَإِنْ قُدِّمَتِ الْأُمُّ فِي الْمُطَالَبَةِ فَحُدَّ لَهَا ثُمَّ طَالَبَتْهُ الْبِنْتُ، فَإِنْ أَجَابَ فِي مُطَالَبَتِهَا إِلَى اللِّعَانِ الْتَعَنَ مِنْهَا لِوَقْتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُجِبْ إِلَى اللِّعَانِ حُبِسَ وَلَمْ يُجْلَدْ لِوَقْتِهِ حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ ثُمَّ يُحَدُّ لَهَا، وَلَا يُوَالَى عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ فَيُفْضِي إِلَى التَّلَفِ، وَهَكَذَا لَوْ قُدِّمَتِ الزَّوْجَةُ فِي الْمُطَالَبَةِ فَإِنِ الْتَعَنَ مِنْهَا حُدَّ لِلْأُمِّ لِوَقْتِهِ، وَإِنْ حُدَّ لِلزَّوْجَةِ وَلَمْ يَلْتَعِنَ مِنْهَا لَمْ يُحَدَّ فِي وَقْتِهِ لِلْأُمِّ، وَحُبِسَ لَهَا حَتَّى يَبْرَأَ جِلْدُهُ ثُمَّ يُحَدُّ لِئَلَّا يُوَالَى عَلَيْهِ بَيْنَ حَدَّيْنِ، فَإِنْ قِيلَ: أَفَلَيْسَ لَوْ قُطِعَ يَمِينُ يَدٍ مِنْ رَجُلٍ، وَيُسْرَى يَدٍ مِنْ آخَرَ، اقْتَصَصْنَا مِنْ يُمْنَاهُ وَيُسْرَاهُ لِوَقْتِهِ، وَجَمَعْنَا عَلَيْهِ بَيْنَ قِصَاصَيْنِ وَإِنْ أَفْضَى إِلَى تَلَفِهِ، فَهَلَّا كَانَ فِي الْحَدِّ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدَّ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ، فَوَجَبَ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِزِيَادَةٍ، وَالْقِصَاصَ مُقَدَّرٌ بِالْجِنَايَةِ فَجَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِطُ بِزِيَادَةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمْعٌ بَيْنَ الْقِصَاصَيْنِ لِأَنَّهُمَا قَدْ يَجْتَمِعَانِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يُجْمَعْ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي حَقِّ شَخْصٍ وَاحِدٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَمَتَى أَبَى اللِّعَانَ فَحَدَدْتُهُ إِلَّا سَوْطًا ثَمَّ قَالَ: أَنَا ألْتَعِنُ قَبِلْتُ رُجُوعَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِيمَا مَضَى مِنَ الضَّرْبِ، كَمَا يَقْذِفُ الْأَجْنَبِيَّةَ وَيَقُولُ: لَا آتِي بِشُهُودٍ فَيُضْرَبُ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا آتِي بِهِمْ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إِذَا لَمْ تَلْتَعِنْ فَضُرِبَتْ بَعْضَ الْحَدِّ ثَمَّ تَقُولُ: أَنَا أَلْتَعِنُ، قَبِلْنَا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا امْتَنَعَ الزَّوْجُ بَعْدَ قَذْفِهِ مِنَ اللِّعَانِ فَحُدَّ بَعْضَ الْحَدِّ أَوْ أَكْثَرَهُ إِلَّا سَوْطًا ثُمَّ أَجَابَ إِلَى اللِّعَانِ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ، وَهَكَذَا الزَّوْجَةُ إِذَا لَاعَنَهَا وَامْتَنَعَتْ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَهُ فَحُدَّتْ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أَجَابَتْ إِلَى اللِّعَانِ جَازَ لَهَا أَنْ تَلْتَعِنَ، وَحَكَى بَعْضُ أَصْحَابِ الْخِلَافِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ مَتَى أَجَابَ الزَّوْجُ إِلَى اللِّعَانِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ لَمْ يُجَبْ إِلَيْهِ، وَاسْتُوفِيَ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِأَصْلِهِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ بِقَذْفِ الزَّوْجِ حَدًّا عَلَيْهِ، وَيَحْبِسُهُ حَتَّى يُلَاعِنَ، وَلَا يُوجِبُ بِلِعَانِهِ حَدًّا عَلَيْهَا وَيَحْبِسُهَا حَتَّى تُلَاعِنَ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمَحْكِيُّ عَنْهُ مَذْهَبًا لَهُ نَاقَضَ أَصْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَذْهَبًا لَهُ فَنَسْتَدِلُّ عَلَى فَسَادِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبًا لِغَيْرِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ اللِّعَانِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْحَدِّ، شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ اللِّعَانَ فِي إِدْرَاءِ الْحَدِّ كَالْبَيِّنَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تُقْبَلُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي حَدِّهِ، فَكَذَلِكَ الْتِعَانُهُ يُقْبَلُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُسْقِطَ بِاللِّعَانِ جَمِيعَ الْحَدِّ، كَانَ إِسْقَاطُهُ بَعْضَ الْحَدِّ بِهِ أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ: فَاللِّعَانُ عِنْدَكُمْ يَمِينٌ وَالْيَمِينُ إِذَا نَكَلَ عَنْهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَجَابَ إِلَيْهَا بَعْدَ رَدِّهَا عَلَى الْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ أَنْ تُعَادَ إِلَيْهِ، فَهَلَّا كَانَ اللِّعَانُ بَعْدَ النُّكُولِ عَنْهُ كَذَلِكَ؟ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَإِذَا نَكَلَ عَنْهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ صَارَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تُعَادَ إِلَيْهِ، وَاللِّعَانُ حَقٌّ لَهُ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ، فَإِذَا أَجَابَ إِلَيْهِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ أُجِيبَ إِلَيْهِ.
مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ لَاعَنْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْكُوحَةٍ نِكَاحًا فَاسِدًا بِوَلَدٍ وَاللَّهُ يَقُولُ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ فَقُلْتُ لَهُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ فَلَمْ يَخْتَلِفِ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ مَالِكُ الْإِصَابَةِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ مِلْكِ الْيَمِينِ، قَالَ: نَعَمْ، هَذَا الْفِرَاشُ. قُلْتُ: وَالزِّنَا لَا يَلْحَقُ بِهِ النَّسَبُ وَلَا يَكُونُ بِهِ مَهْرٌ وَلَا يُدْرَأُ فِيهِ حَدٌّ؟ قَالَ نَعَمْ. قُلْتُ: فَإِذَا حَدَثَتْ نَازِلَةٌ لَيْسَتْ بِالْفِرَاشِ الصَّحِيحِ وَلَا الزِّنَا الصَّرِيحِ وَهُوَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ، أَلَيْسَ سَبِيلُهَا أَنْ نَقِيسَهَا بِأَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ بِهَا شَبَهًا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَقَدْ أَشْبَهَ الْوَلَدُ عَنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ الْوَلَدَ عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي إِثْبَاتِ الْوَلَدِ وَإِلْزَامِ الْمَهْرِ وَإِيجَابِ الْعِدَّةِ، فَكَذَلِكَ يَشْتَبِهَانِ فِي النَّفْيِ بِاللِّعَانِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يُلَاعِنُ إِلَّا حُرَّانِ مُسْلِمَانِ لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ، وَتَرَكَ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ وَاعْتَلَّ بِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ وَإِنَّمَا هُوَ يَمِينٌ، وَلَوْ كَانَ شَهَادَةً مَا جَازَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ وَلَكَانَتِ الْمَرْأَةُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ شَهَادَةِ الرَّجُلِ وَلَا كَانَ عَلَى شَاهِدٍ يَمِينٌ وَلَمَا جَازَ الْتِعَانُ الْفَاسِقَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَا تَجُوزُ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ يَتُوبَانِ فَيَجُوزَانِ. قِيلَ: فَكَذَلِكَ الْعَبْدَانِ الصَّالِحَانِ قَدْ يُعْتَقَانِ فَيَجُوزَانِ مَكَانَهُمَا، وَالْفَاسِقَانِ لَوْ تَابَا لَمْ يُقْبَلَا إِلَّا بِعْدَ طُولِ مُدَّةٍ يُخْتَبَرَانِ فِيهَا فَلَزِمَهُمْ أَنْ يُجِيزُوا لِعَانَ الْأَعْمَيَيْنِ النَّحِيفَيْنِ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا عِنْدَهُمْ لَا تَجُوزُ أَبَدًا كَمَا لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودَيْنِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَهُ، يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنَ الْمَنْكُوحَةِ نِكَاحًا فَاسِدًا وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَ بِلِعَانِهِ نَسَبًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعَنَ بَيْنَهُمَا إِنْ لَمْ يَنْفِ نَسَبًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُلَاعِنَ إِلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ يَقَعُ فِيهِ طَلَاقُهُ وَيَصِحُّ فِيهِ ظِهَارُهُ، وَلَا يُلَاعِنُ فِي نِكَاحٍ فَاسِدٍ، وَلَا فِي مَوْطُوءَةٍ بِشُبْهَةٍ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ نَسَبٍ يَلْحَقُهُ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} وَلَيْسَتْ هَذِهِ زَوْجَتَهُ، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ اللِّعَانُ كَالْأَجْنَبِيِّ، وَلِأَنَّ اللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ فَلَمْ يَصِحَّ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ كَالطَّلَاقِ، وَلِأَنَّ مَنِ انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ النِّكَاحِ مِنَ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ، وَالْإِيلَاءِ انْتَفَى عَنْهَا أَحْكَامُ اللِّعَانِ كَالْأَجْنَبِيَّةِ، وَكَغَيْرِ ذَاتِ الْوَلَدِ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ}، وَهَذِهِ فِي حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فِي دَرْءِ الْحَدِّ، وَوُجُوبِ الْمَهْرِ وَلُحُوقِ النَّسَبِ، فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ مِثْلَهُنَّ فِي جَوَازِ اللِّعَانِ، وَلِأَنَّهَا ذَاتُ فِرَاشٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ نَسَبِهِ بِغَيْرِ اللِّعَانِ، فَجَازَ لَهُ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ كَالزَّوْجَةِ، وَخَالَفَتِ الْأَمَةُ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَى نَفْيِ وَلَدِهَا بِالِاسْتِبْرَاءِ، وَلِأَنَّ لُحُوقَ النَّسَبِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَقْوَى؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُ بِالْعَقْدِ، وَلُحُوقُهُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ أَضْعَفُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ إِلَّا بِالْإِصَابَةِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفِيَ بِاللِّعَانِ- أَقْوَى السَّبَبَيْنِ- كَانَ أَنْ يَنْفِيَ أَضْعَفَهُمَا أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ بِاللِّعَانِ شَيْئَانِ: رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ النَّسَبِ، فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِرَفْعِ الْفِرَاشِ جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَفْيِ النَّسَبِ؛ لِأَنَّ مَا قَدَرَ عَلَى رَفْعِ شَيْئَيْنِ قَدَرَ عَلَى رَفْعِ أَحَدِهِمَا، وَلِأَنَّ أُصُولَ الشَّرْعِ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى أَنَّ أَحْكَامَ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِأَحْكَامِهَا فِي الصِّحَّةِ، فَلَمَّا جَازَ نَفْيُ النَّسَبِ فِي صَحِيحِ الْمَنَاكِحِ كَانَ نَفْيُهُ فِي فَاسِدِهَا أَوْلَى. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ مَا اسْتَدْلَلْنَا بِهِ مِنْهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِأَنَّهُ قُذْفٌ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ: فَهُوَ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْأَزْوَاجِ فِي لُحُوقِ النَّسَبِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَوْجًا. فَلِذَلِكَ خَالَفَ فِيهِ الْأَجْنَبِيَّ لِاخْتِصَاصِهِ بِنَسَبٍ يُضْطَرُّ فِيهِ إِلَى نَفْيِهِ بِلِعَانٍ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْفُرْقَةِ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّلَاقَ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ، فَلَمْ يَثْبُتْ إِلَّا فِي صَحِيحِهِ دُونَ فَاسِدِهِ، وَاللِّعَانَ يُمْلَكُ بِحُدُوثِ الزِّنَا، فَجَازَ أَنْ يُمْلَكَ بِهِ فِي صَحِيحِ الْعَقْدِ وَفَاسِدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الطَّلَاقَ مُخْتَصٌّ بِالْفُرْقَةِ، وَالنِّكَاحَ الْفَاسِدَ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ، وَاللِّعَانَ مَوْضُوعٌ لِنَفْيِ الْمَعَرَّةِ، وَوُقُوعِ الْفُرْقَةِ، وَنَفْيِ لِحَوْقِ النَّسَبِ، فَصَحَّ فِيهِ اللِّعَانُ لِبَقَاءِ سَبَبِهِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى مَنَعْنَاهُ أَنْ يُلَاعِنَ مِنْ غَيْرِ ذَاتِ وَلَدِ النَّسَبِ لِزَوَالِ أَسْبَابِهِ كُلِّهَا.
فصل: فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اللِّعَانِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَوَطْءِ الشُّبْهَةِ وما يتعلق به من أحكام، تَعَلَّقَ بِالْتِعَانِهِ فِيهِمَا مِنْ أَحْكَامِ اللِّعَانِ الْأَرْبَعَةِ حُكْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: دَرْءُ الْحَدِّ.
وَالثَّانِي: نَفْيُ النَّسَبِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ لِعَدَمِ النِّكَاحِ، وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَحْرِيمُ التَّأْبِيدِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَابِعٌ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ.
وَالثَّانِي: يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا، لِأَنَّ سُقُوطَ بَعْضِ أَحْكَامِ اللِّعَانِ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ بَاقِيهَا، وَقَدْ مَضَى ذِكْرُ الْوَجْهَيْنِ وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.